ما ورد في خلق آدم عليه السلام
قال الله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين. وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم. قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
وقال تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}. وقال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تتساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}.
كما قال: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}.
وقال تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها}.
وقال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين، قال أنظرني إلى يوم يبعثون، قال إنك من المنظرين، قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين، قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين، ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين، فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون}.
كما قال في الآية الأخرى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}. وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون. والجان خلقناه من قبل من نار السموم. وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين. قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون. قال فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين. قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم. قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين. قال هذا صراط علي مستقيم. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين. وإن جهنم لموعدهم أجمعين. لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم}.
وقال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا. قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا.قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا. واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا}. وقال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}. وقال تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}. وقال تعالى: {قل هو نبأ عظيم. أنتم عنه معرضون. ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون. إن يوحى إلي إلا إنما أنا نذير مبين. إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أاستكبرت أم كنت من العالين. قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين. قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون. قال فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم. قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين. قال فالحق والحق أقول. لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين. قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين. إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين}.
فهذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن، وقد تكلمنا على ذلك كله في التفسير، ولنذكر هاهنا مضمون ما دلت عليه هذه الآيات الكريمات، وما يتعلق بها من الأحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله والله المستعان.
فأخبر تعالى أنه خاطب الملائكة قائلا لهم: {إني جاعل في الأرض خليفة} أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضا كمال قال: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} وقال: {ويجعلكم خلفاء الأرض} فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته، كما يخبر بالأمر العظيم قبل كونه، فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض والتنقص لبني آدم والحسد لهم، كما قد يتوهمه بعض جهلة المفسرين، قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}.
قيل علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن. قاله قتادة.
وقال عبد الله بن عمر: كانت الجن قبل آدم بألفي عام فسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم جندا من الملائكة فطردوهم إلى جزائر البحور. وعن ابن عباس نحوه. وعن الحسن: ألهموا ذلك. وقيل: لما اطلعوا عليه من اللوح المحفوظ، فقيل أطلعهم عليه هاروت وماروت عن ملك فوقهما يقال له السجل. رواه ابن أبي حاتم عن أبي جعفر الباقر. وقيل: لأنهم علموا أن الأرض لا يخلق منها إلا من يكون بهذه المثابة غالبا.
{ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} أي نعبدك دائما لا يعصيك منا أحد، فإن كان المراد بخلق هؤلاء أن يعبدوك فها نحن لا نفتر ليلا ولا نهارا.
{قال إني أعلم ما لا تعلمون} أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هؤلاء ما لا تعلمون، أي سيوجد منهم الأنبياء والمرسلون والصديقون والشهداء.
ثم بين لهم شرف آدم عليهم في العلم فقال: {وعلم آدم الأسماء كلها}. قال ابن عباس: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض وسهل، وبحر، وجبل، وجمل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وفي رواية: علمه اسم الصحفة، والقدر، حتى الفسوة والفسية. وقال مجاهد: علمه اسم كل دابة، وكل طير وكل شيء. وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وغير واحد.
وقال الربيع: علمه أسماء الملائكة. وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته. والصحيح: أنه علمه أسماء الذوات وأفعالها مكبرها ومصغرها، كما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما.
وذكر البخاري هنا ما رواه هو ومسلم من طريق سعيد وهشام عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن رسول الله قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء" وذكر تمام الحديث.
{ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}. قال الحسن البصري: لما أراد الله خلق آدم، قالت الملائكة: لا يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه. فابتلوا بهذا. وذلك قوله {إن كنتم صادقين}. وقيل غير ذلك كما بسطناه في التفسير.
{قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} أي سبحانك أن يحيط أحد بشيء من علمك من غير تعليمك، كما قال: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}.
{قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}. أي أعلم السر كما أعلم العلانية. وقيل أن المراد بقوله: {وأعلم ما تبدون } ما قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها، وبقوله {وما كنتم
تكتمون} المراد بهذا الكلام إبليس حين أسر الكثير والخيرية على آدم عليه السلام. قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري واختاره ابن جرير. وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتاده: {وما كنتم تكتمون} قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه.
قوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر} هذا إكرام عظيم من الله لآدم حين خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، كما قال: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} فهذه أربع تشريفات: خلقه له بيده الكريمة، ونفخه من روحه، وأمره الملائكة بالسجود له، وتعليمه أسماء الأشياء.
ولهذا قال له موسى الكليم حين اجتمع هو وإياه في الملأ الأعلى وتناظرا كما سيأتي: أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء. وهكذا يقول أهل المحشر يوم القيامة كما تقدم، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال في الآية الأخرى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}. قال الحسن البصري: قاس إبليس وهو أول من قاس، وقال محمد بن سيرين: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقايس رواهما ابن جرير.
ومعنى هذا أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم، فرأى نفسه أشرف من آدم فامتنع من السجود له، مع وجود الأمر له ولسائر الملائكة بالسجود. والقياس إذا كان مقابلا بالنص كان فاسد الاعتبار. ثم هو فاسد في نفسه، فإن الطين أنفع وخير من النار، لأن الطين فيه الرزانة والحلم والأناة والنمو، والنار فيها الطيش والخفة والسرعة والإحراق.
ثم آدم شرفه الله بخلقه له بيده ونفخه فيه من روحه، ولهذا أمر الملائكة بالسجود له، كما قال: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين. قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون. قال فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين}. استحق هذا من الله تعالى لأنه استلزم تنقصه لآدم وازدراؤه به وترفعه عليه مخالفة الأمر الإلهي، ومعاندة الحق في النص على آدم على التعيين.
وشرع في الاعتذار بما لا يجدي عنه شيئا، وكان اعتذاره أشد من ذنبه كما قال تعالى في سورة سبحان: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا. قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا. قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا. واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا}.
وقال في سورة الكهف: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني}. أي خرج عن طاعة الله عمدا وعنادا واستكبارا عن امتثال أمره، وما ذاك إلا لأنه خانه طبعه ومادته الخبيثة أحوج ما كان إليها، فإنه مخلوق من نار كما قال "وكما قررنا"، كما جاء في "صحيح مسلم" عن عائشة عن رسول الله قال: "خلقت الملائكة من نور "العرش"، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم".
قال الحسن البصري: لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين قط. وقال شهر بن حوشب: كان من الجن، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله إليهم جندا من الملائكة فقتلوهم وأجلوهم إلى جزائر البحار، وكان إبليس ممن أسر فأخذوه معهم إلى السماء فكان هناك. فلما أمرت الملائكة بالسجود امتنع إبليس منه.
وقال ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة وسعيد بن المسيب وآخرون: كان إبليس رئيس الملائكة بالسماء الدنيا. قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل، وفي رواية عنه: الحارث. قال النقاش: وكنيته أبو كردوس. قال ابن عباس: وكان من حي من الملائكة يقال لهم الجن، وكانوا خزان الجنان، وكان من أشرفهم وأكثرهم علما وعبادة، وكان من أولي الأجنحة الأربعة فمسخه الله شيطانا رجيما.
وقال في سورة ص: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين. قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين. قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم. قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين. قال فالحق والحق أقول. لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين}.
وقال في سورة الأعراف:{قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}. أي بسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم كل مرصد، ولأتينهم من كل جهة منهم، فالسعيد من خالفه والشقي من اتبعه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو عقيل - هو عبد الله بن عقيل الثقفي - حدثنا موسى بن المسيب، عن سالم بن أبي الجعد، عن سبرة بن أبي الفاكه قال: سمعت رسول الله قال: "إن الشيطان يقعد لابن آدم بأطرقه" وذكر الحديث "كما قدمناه في صفة إبليس".
وقد اختلف المفسرون في الملائكة المأمورين بالسجود لآدم: أهم جميع الملائكة كما دل عليه عموم الآيات؟ وهو قول الجمهور. أو المراد بهم ملائكة الأرض؟ كما رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس، وفيه انقطاع، وفي السياق نكارة، وإن كان بعض المتأخرين قد رجحه. ولكن الأظهر من السياقات الأول، ويدل عليه الحديث: "وأسجد لك ملائكته" وهذا عموم أيضا والله أعلم.
وقوله تعالى لإبليس: {فاهبط منها} و {اخرج منها} دليل على أنه كان في السماء فأمر بالهبوط منها، والخروج من المنزلة والمكانة التي كان قد نالها بعبادته، وتشبهه بالملائكة في الطاعة والعبادة، ثم سلب ذلك بكبره وحسده ومخالفته لربه، فأهبط إلى الأرض مذموما مدحورا. وأمر الله آدم عليه السلام أن يسكن هو وزوجته الجنة فقال: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}. وقال في الأعراف: {قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين. ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}. وقال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى}.
وسياق هذه الآيات يقتضي أن خلق حواء كان قبل دخول آدم الجنة لقوله: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} وهذا قد صرح به إسحاق بن يسار وهو ظاهر هذه الآيات.
ولكن حكى السدي عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة أنهم قالوا: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشيا ليس له فيها زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه. فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي، فقالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه: ما أسمها يا آدم؟ قال حواء، قالوا ولم كانت حواء؟ قال لأنها خلقت من شيء حي. وذكر محمد بن اسحاق عن ابن عباس أنها خلقت من ضلعه الأقصر الأيسر وهو نائم ولأم مكانه لحما.
ومصداق هذا في قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} الآية. وفي قوله تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به} الآية. وسنتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى
وفي "الصحيحين" من حديث زائدة، عن ميسرة الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي أنه قال: "استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا". لفظ البخاري.
وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة} فقيل: هي الكرم، وروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والشعبي، وجعدة بن هبيرة، ومحمد بن قيس، والسدي في رواية عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة. قال: وتزعم يهود أنها الحنطة، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن البصري، ووهب بن منبه، وعطية العوفي، وأبي مالك، ومحارب بن دثار، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. قال وهب: والحبة منه ألين من الزبد وأحلى من العسل. وقال الثوري عن أبي حصين، عن أبي مالك: {ولا تقربا هذه الشجرة} هي النخلة. وقال ابن جريج عن مجاهد: هي التينة، وبه قال قتادة، وابن جريج. وقال أبو العالية: كانت شجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي في الجنة حدث.
وهذا الخلاف قريب، وقد أبهم الله ذكرها وتعيينها، ولو كان في ذكرها مصلحة تعود إلينا لعينها لنا كما في غيرها من المحال التي تبهم في القرآن.
وإنما الخلاف الذي ذكروه في أن هذه الجنة التي أدخلها آدم: هل هي في السماء أو في الأرض، هو الخلاف الذي ينبغي فصله والخروج منه.
والجمهور على أنها هي التي في السماء وهي جنة المأوى، لظاهر الآيات والأحاديث كقوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} والألف واللام ليست للعموم ولا لمعهود لفظي، وإنما تعود على معهود ذهني، وهو المستقر شرعا من جنة المأوى، وكقول موسى عليه السلام لآدم عليه السلام: "علام أخرجتنا ونفسك من الجنة؟..." الحديث كما سيأتي الكلام عليه.
وروى مسلم في "صحيحه" من حديث أبي مالك الأشجعي - واسمه سعد بن طارق - عن أبي حازم سلمة بن دينار، عن أبي هريرة، وأبو مالك عن ربعي، عن حذيفة قالا: قال رسول الله : "يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة. فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟" وذكر الحديث بطوله.
وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة في الدلالة على أنها جنة المأوى، وليست تخلو عن نظر.
وقال آخرون: بل الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد، لأنه كلف فيها ألا يأكل من تلك الشجرة، ولأنه نام فيها وأخرج منها، ودخل عليه إبليس فيها، وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى.
وهذا القول محكي عن أبي بن كعب، وعبد الله بن عباس، ووهب بن منبه، وسفيان بن عيينة، واختاره ابن قتيبة في "المعارف"، والقاضي منذر بن سعيد البلوطي في "تفسيره" وأفرد له مصنفا على حدة. وحكاه عن أبي حنيفة الإمام وأصحابه رحمهم الله. ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ابن خطيب الري في "تفسيره" عن أبي القاسم البلخي وأبي مسلم الأصبهاني. ونقله القرطبي في "تفسيره" عن المعتزلة والقدرية وهذا القول هو نص التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
وممن حكى الخلاف في هذه المسألة أبو محمد بن حزم في الملل والنحل، وأبو محمد بن عطية في تفسيره، وأبو عيسى الرماني في "تفسيره" - وحكى عن الجمهور الأول - وأبو القاسم الراغب والقاضي الماوردي في "تفسيره" فقال: "واختلف في الجنة التي أسكناها يعني آدم وحواء على قولين: أحدهما أنها جنة الخلد. الثاني جنة أعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء، وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء.
ومن قال بهذا اختلفوا على قولين: أحدهما أنها في السماء لأنه أهبطهما منها، وهذا قول الحسن، والثاني أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار. وهذا قول ابن يحيى، وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم، والله أعلم بالصواب من ذلك". هذا كلامه. فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة، وأشعر كلامه أنه متوقف في المسألة.
ولقد حكى أبو عبد الله الرازي في "تفسيره" في هذه المسألة أربعة أقوال: هذه الثلاثة التي أوردها الماوردي، ورابعها الوقف. وحكى القول بأنها في السماء وليست جنة المأوى، عن أبي علي الجبائي.
وقد أورد أصحاب القول الثاني سؤالا يحتاج مثله إلى جواب، فقالوا: لاشك أن الله سبحانه وتعالى طرد إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة الإلهية، وأمره بالخروج عنها والهبوط منها وهذا الأمر ليس من الأوامر الشرعية بحيث يمكن مخالفته، وإنما هو أمر قدري لا يخالف ولا يمانع، ولهذا قال: {اخرج منها مذءوما مدحورا}. وقال: {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها} وقال: {فاخرج منها فإنك رجيم} والضمير عائد إلى الجنة أو السماء أو المنزلة. وأيا ما كان فمعلوم أنه ليس له الكون قدرا في المكان الذي طرد منه وأبعد منه، لا على سبيل الاستقرار ولا على سبيل المرور والاجتياز. قالوا: ومعلوم من ظاهر سياقات القرآن أنه وسوس لآدم وخاطبه بقوله له: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} وبقوله: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور} الآية وهذا ظاهر في اجتماعه معهما في جنتهما.
وقد أجيبوا عن هذا بأنه: لا يمتنع أن يجتمع بهما في الجنة على سبيل المرور فيها لا على سبيل الاستقرار بها، وأنه وسوس لهما وهو على باب الجنة أو من تحت السماء. وفي الثلاثة نظر، والله أعلم.
ومما احتج به أصحاب هذه المقالة: ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في الزيادات عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن البصري، عن يحيى بن ضمرة السعدي، عن أبي بن كعب، قال: إن آدم لما احتضر اشتهى قطفا من عنب الجنة، فانطلق بنوه ليطلبوه له، فلقيتهم الملائكة فقالوا: أين تريدون يا بني آدم؟ فقالوا إن أبانا اشتهى قطفا من عنب الجنة. فقالوا لهم: ارجعوا فقد كفيتموه. فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه، وصلى عليه جبريل ومن خلفه الملائكة ودفنوه، وقالوا: هذه سنتكم في موتاكم. وسيأتي الحديث بسنده، وتمام لفظه عند ذكر وفاة آدم عليه السلام.
قالوا: فلولا أنه كان الوصول إلى الجنة التي كان فيها آدم التي اشتهى منها القطف ممكنا، لما ذهبوا يطلبون ذلك، فدل على أنها في الأرض لا في السماء والله تعالى أعلم.
قالوا: والاحتجاج بأن الألف واللام في قوله: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} لم يتقدم عهد يعود عليه فهو المعهود الذهني مسلم، ولكن هو ما دل عليه سياق الكلام، فإن آدم خلق من الأرض ولم ينقل أنه رفع إلى السماء، وخلق ليكون في الأرض، وبهذا أعلم الرب الملائكة حيث قال: {إني جاعل في الأرض خليفة}.
قالوا: وهذا كقوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} واللام ليس للعموم، ولم يتقدم معهود لفظي، وإنما هي للمعهود الذهني الذي دل عليه السياق وهو البستان.
قالوا: وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء، قال الله تعالى: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك} وإنما كان في السفينة حين استقرت على الجودي ونضب الماء عن وجه الأرض أمر أن يهبط إليها هو ومن معه مباركا عليه وعليهم. وقال الله تعالى: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} الآية. وقال تعالى: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} الآية. وفي الأحاديث واللغة من هذا كثير.
قالوا: ولا مانع - بل هو الواقع - أن الجنة التي أسكنها آدم كانت مرتفعة عن سائر بقاع الأرض، ذات أشجار وثمار وظلال ونعيم ونضرة وسرور، كما قال تعالى: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى} أي لا يذل باطنك بالجوع ولا ظاهرك بالعرى {وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} أي لا يمس باطنك حر الظمأ ولا ظاهرك حر الشمس، ولهذا قرن بين هذا وهذا، وبين هذا وهذا، لما بينهما من الملاءمة. فلما كان منه ما كان من أكله من الشجرة التي نهي عنها، أهبط إلى أرض الشقاء والتعب والنصب والكدر والسعي والنكد، والابتلاء والاختبار والامتحان، واختلاف السكان دينا وأخلاقا وأعمالا، وقصودا وارادات وأقوالا وأفعالا، كما قال تعالى: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}. ولا يلزم من هذا أنهم كانوا في السماء كما قال: {وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا} ومعلوم أنهم كانوا فيها ولم يكونوا في السماء.
قالوا: وليس هذا القول مفرعا على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم ولا تلازم بينهما، فكل من حكى عنه هذا القول من السلف وأكثر الخلف، ممن يثبت وجود الجنة والنار اليوم، كما دلت عليه الآيات والأحاديث الصحاح. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها} أي عن الجنة {فأخرجهما مما كانا فيه} أي من النعيم والنضرة والسرور إلى دار التعب والكد والنكد، وذلك بما وسوس لهما وزينه في صدورهما، كما قال تعالى: {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} يقول: ما نهاكما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، أي لو أكلتما منها لصرتما كذلك {وقاسمهما} أي حلف لهما على ذلك {إني لكما لمن الناصحين} كما قال في الآية الأخرى: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} أي هل أدلك على الشجرة التي إذا أكلت منها حصل لك الخلد فيما أنت فيه من النعيم، واستمررت في ملك لا يبيد ولا ينقضي؟ وهذا من التغرير والتزوير والإخبار بخلاف الواقع.
والمقصود أن قوله شجرة الخلد التي إذا أكلت منها خلدت. وقد تكون هي الشجرة التي قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة، عن أبي الضحاك، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله : "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، شجرة الخلد". وكذا رواه أيضا عن غندر وحجاج، عن شعبة. ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن شعبة أيضا به. قال غندر: قلت لشعبة: هي شجرة الخلد؟ قال: ليس فيها هي. تفرد به الإمام أحمد.
وقوله: {فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} كما قال في طه {فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم، وهي التي حدته على أكلها والله أعلم.
وعليه يحمل الحديث الذي رواه البخاري: حدثنا بشر بن محمد، حدثنا عبد الله، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي نحوه: "لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها".
تفرد به من هذا الوجه، وأخرجاه في "الصحيحين" من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة به، ورواه أحمد ومسلم عن هارون بن معروف، عن أبي وهب، عن عمرو بن حارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة به.
وفي كتاب التوراة التي بين أيدي أهل الكتاب: أن الذي دل حواء على الأكل من الشجرة هي الحية، وكانت من أحسن الأشكال وأعظمها، فأكلت حواء عن قولها وأطعمت آدم عليه السلام، وليس فيها ذكر لإبليس، فعند ذلك انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فوصلا من ورق التين وعملا مآزر. وفيها: أنهما كانا عريانين. وكذا قال وهب بن منبه: كان لباسهما نورا على فرجه وفرجها.
وهذا الذي في هذه التوراة التي بأيديهم غلط منهم، وتحريف وخطأ في التعريب؛ فإن نقل الكلام من لغة إلى لغة لا يكاد يتيسر لكل أحد، ولا سيما ممن لا يعرف كلام العرب جيدا، ولا يحيط علما بفهم كتابه أيضا، فلهذا وقع في تعريبهم لها خطأ كثير لفظا ومعنى. وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس فيقوله: {ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما} فهذا لا يرد لغيره من الكلام والله تعالى أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن بن أسكاب، حدثنا علي بن عاصم، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله : "إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن عز وجل: يا آدم مني تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال يا رب لا، ولكن استحياء".
وقال الثوري عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} ورق التين.
وهذا إسناد صحيح إليه، وكأنه مأخوذ من أهل الكتاب، وظاهر الآية يقتضي أعم من ذلك، وبتقدير تسليمه فلا يضر، والله تعالى أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن اسحاق، عن الحسن بن ذكوان، عن الحسن البصري، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله : "إن أباكم آدم كان كالنخلة السحوق، ستون ذراعا كثير الشعر موارى العورة، فلما أصاب الخطيئة في الجنة بدت له سوأته، فخرج من الجنة، فلقيته شجرة فأخذت بناصيته، فناداه ربه: أفرارا مني يا آدم. قال: بل حياء منك والله يا رب مما جئت به". ثم رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن يحيى بن ضمرة، عن أبي بن كعب عن النبي بنحوه. وهذا أصح، فإن الحسن لم يدرك أبيا. ثم أورده أيضا من طريق خيثمة بن سليمان الأطرابلسي، عن محمد بن عبد الوهاب أبي مرصافة العسقلاني، عن آدم بن أبي إياس، عن سنان، عن قتادة عن أنس مرفوعا بنحوه.
{وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}.
وهذا اعتراف ورجوع إلى الإنابة، وتذلل وخضوع واستكانة، وافتقار إليه تعالى في الساعة الراهنة، وهذا السر ما سرى في أحد من ذريته إلا كانت عاقبته إلى خير في دنياه وأخراه.
{قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} وهذا خطاب لآدم وحواء وإبليس، قيل والحية معهم. أمروا أن يهبطوا من الجنة في حال كونهم متعادين متحاربين. وقد يستشهد لذكر الحية معهما بما ثبت في الحديث عن رسول الله أنه أمر بقتل الحيات، وقال: ما سالمناهن منذ حاربناهن. وقوله في سورة طه: {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو} هو أمر لآدم وإبليس. واستتبع آدم حواء وإبليس الحية. وقيل هو أمر لهم بصيغة التثنية كما في قوله تعالى: {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} والصحيح أن هذا لما كان الحاكم لا يحكم إلا بين اثنين مدع ومدعى عليه، قال: {وكنا لحكمهم شاهدين}.
وأما تكريره الهباط في سورة البقرة في قوله: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم. قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
فقال بعض المفسرين: المراد بالاهباط الأول: الهبوط من الجنة إلى السماء الدنيا، وبالثاني من السماء الدنيا إلى الأرض. وهذا ضعيف لقوله في الأول: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} فدل على أنهم اهبطوا إلى الأرض بالاهباط الأول والله أعلم.
والصحيح أنه كرره لفظا وإن كان واحدا، وناط مع كل مرة حكما؛ فناط بالأول عداوتهم فيما بينهم، وبالثاني الاشتراط عليهم أن من تبع هداه الذي ينزله عليهم بعد ذلك فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقي، وهذا الأسلوب في الكلام له نظائر في القرآن الحكيم.
وروى الحافظ ابن عساكر عن مجاهد قال: أمر الله ملكين أن يخرجا آدم وحواء من جواره، فنزع جبريل التاج عن رأسه، وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه، وتعلق به غصن، فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة، فنكس رأسه يقول: العفو العفو، فقال الله: فرارا مني؟ قال: بل حياء منك يا سيدي!
وقال الأوزاعي عن حسان - هو ابن عطية - مكث آدم في الجنة مائة عام، وفي رواية ستين عاما، وبكى على الجنة سبعين عاما، وعلى خطيئته سبعين عاما، وعلى ولده حين قتل أربعين عاما. رواه ابن عساكر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن سعيد، عن ابن عباس قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها "دحنا" بين مكة والطائف. وعن الحسن قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدستميان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان. رواه ابن أبي حاتم أيضا. وقال السدي: نزل آدم بالهند ونزل معه بالحجر الأسود وبقبضة من ورق الجنة، فبثه في الهند فنبتت شجرة الطيب هناك. وعن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة. رواه ابن أبي حاتم أيضا.
وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرني عوف، عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى الأشعري، قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء. وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.
وقال الحاكم في "مستدركه": أنبأنا أبو بكر بن بالويه، عن محمد بن أحمد بن النضر، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عمار بن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وفي "صحيح مسلم" من حديث الزهري عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها". وفي الصحيح من وجه آخر: " وفيه تقوم الساعة".
وقال أحمد: حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، عن أبي عمار، عن عبد الله بن فروخ، عن أبي هريرة، عن النبي قال: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة". على شرط مسلم. فأما الحديث الذي رواه ابن عساكر من طريق أبي القاسم البغوي، حدثنا محمد بن جعفر الوركاني، حدثنا سعيد بن ميسرة، عن أنس قال: قال رسول الله : "هبط آدم وحواء عريانين جميعا، عليهما ورق الجنة، فأصابه الحر حتى قعد يبكي ويقول لها: يا حواء قد آذاني الحر، قال فجاءه جبريل بقطن، وأمرها أن تغزل وعلمها، وأمر آدم بالحياكة وعلمه أن ينسج"، وقال: "كان آدم لم يجامع امرأته في الجنة، حتى هبط منها للخطيئة التي أصابتهما بأكلهما من الشجرة"، قال: "وكان كل واحد منهما ينام على حدة؛ وينام أحدهما في البطحاء والآخر من ناحية أخرى، حتى أتاه جبريل فأمره أن يأتي أهله"، قال: "وعلمه كيف يأتيها، فلما أتاها جاءه جبريل فقال: كيف وجدت امرأتك، قال: صالحة".
فإنه حديث غريب ورفعه منكر جدا. وقد يكون من كلام بعض السلف وسعيد بن ميسرة هذا هو أبو عمران البكري البصري، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، وقال ابن عدي: مظلم الأمر.
وقوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} قيل هي قوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}. روي هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب وخالد بن معدان وعطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن بن أسكاب، حدثنا علي بن عاصم، عن سعيد بن أبي عروبة ،عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله : "قال آدم عليه السلام: أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة قال: نعم" فذلك قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه}. وهذا غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الكلمات "اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم".
وروى الحاكم في "مستدركه" من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} قال: قال آدم يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قيل له بلى، ونفخت في من روحك؟ قيل له بلى، وعطست فقلت يرحمك الله وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى، وكتبت علي أن أعمل هذا؟ قيل له بلى، قال أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وروى الحاكم أيضا والبيهقي وابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله : "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد أن تغفر لي". فقال الله: فكيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد؟ فقال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك.فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك. قال البيهقي: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه وهو ضعيف. والله أعلم.
وهذه الآية كقوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى}.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire