علي باش
حانبة
يعدّ علي باش حانبه من الشخصيات المؤسسة للحركة القومية التونسية، فقد تفرغ
للعمل السياسي و الإجتماعي منذ بداية شبابه، فكانت حياته على قصرها ثريّة
بالمشاريع التنظيمية و بالتجارب الإنسانية و السياسية العميقة .
ولد علي باش حانبه بمدينة تونس سنة 1867، و كان والده من أعوان الوزير (مصطفى
بن إسماعيل)، تلقى تعليمه بالمدرسة الصادقية، و بعد حصوله على شهادة ختم الدراسة
عيّن وكيلاً بالمعهد الذي تعلم فيه مكلّفاً بالتصرّف في العقارات الراجعة له بالنظر،
و لكنه لم يلبث أن إنتسب إلى جامعة (Aix) الفرنسية لدراسة القانون، فأعدّ الإجازة ثم
أحرز الدكتوراه في الحقوق، ممّا مكنه من التخلي عن الوظيفة و الإنخراط في سلك
المحامين .
تشبّع علي باش حانبه خلال دراسته ثم إقامته بالخارج بالقيم و المبادئ
الليبراليّة و الأساليب الحديثة في التنظّم و التسيير، و لعلّ هذا ما دفعه إلى
معالجة مظاهر القصور في مجتمعه بترويج الأفكار الإصلاحية و العمل على ترجمتها
ميدانيّاً ، و هكذا راح دعو إلى النهوض بالتونسيين بتعميم الحداثة و توجيهها
توجيها قومياً، و إتخذت دعوته أسلوباً عملياً منظماً من خلال المساهمة في بعث
منابر جديدة للحوار و التبليغ منها (المنتدى التونسي|Le cercle Tunisien) و جمعيّة
قدماء الصادقية و جرائد (Le Tunisien) و (التونسي) و (الإتحاد الإسلامي) .
إنخرط باش حانبه في النشاط السياسي في بداية القرن 20 فكان يتعامل مع النظام
الإستعماري وفق تطوّر الوضع داخل تونس و خارجها، فإتسم أسلوبه في بداية الأمر (1905-1910)
بمهادنة حكومة الحماية، ثم أخذ طابع التحدي المستتر حيناً و المعلن أحياناً، فلمّا
قرّرت السلط إبعاده عن تونس (1912) أظهر عداء واضحاً للإستعمار و أصبح في عداد
المتمرّدين .
كان علي باش حانبه في بداية نشاطه السياسي يطالب مثل بقية رفقائه بتشريك
التونسيين في تصريف شؤونهم الإداريّة و في تسيير دواليب الحياة السياسية، و
المساواة في الأجور بينهم و بين الموظفين الأوروبيين و الدفاع عن حق الفلاح
التونسي في إمتلاك أساليب الإنتاج العصري كغيره من المعمرين، كما كان يؤمن بجدوى
العمل السلمي الذي يكون أساسه التقارب بين التونسيين و الفرنسويين للأخذ بأسباب
الوعي و التنظّم المحكم على المستوى الإجتماعي من ذلك دفاعه المستميت عن المدارس و
إحتجاجه على إغلاق بعضها بالجنوب و دعوته لتمويل بعثات صيفية تلمذية إلى فرنسا
ليرى الجيل الجديد و يعي الفارق الحضاري و يقف على أساليب الحياة العصرية التي
تمكّن من بناء مجتمع تونسي ينافس المجتمعات الأوروبية من ناحية الوعي الإجتماعي و
السياسي و التطوّر الإداري لذلك كان يدعو إلى الإقتداء بالأساليب الغربية في
التنظم و التفكير دون التفريط في مقومات الهوية القومية، و كانت الغاية من رواء
هذه المطالب تغلغل العنصر التونسي في الإدارة، إنشاء جيل جديدة متعلّم متنوّر و
تقوية القدرة الإنتاجية للفلاح التونسي، خلق أجواء ملائمة و عقلية جديدة بإمكانيات
ماديّة و فكريّة قادرة على مزاحمة الإستعمار و طرده حين تتمكن من أسباب القوة في
بلادها، فقد كان علي باش حانبه و رفاقه يعون مقدار الهوّة الفاصلة بينهم و بين
فرنسا الإستعمارية و ميزان القوى اللامتكافئ حينها حتى من ناحية القوى المدنية فما
بالك بالعسكرية . و قد قاده هذا الموقف المعتدل إلى الإقرار بلزوم التعامل مع
الحماية الفرنسوية و الدعوة للتعاون معها، و لكنه لم يلبث أن أصيب بخيبة أمل بسبب
تحفظ الحكومة و تشدّد المتفوقين من غلاة الإستعمار .
إتجهت الأنظار إلى علي باش حانبه بعد صدور جريدة (التونسي|Le Tunisien) و تعيينه
بإجماع أقرانه مديراً سياسياً لها (فيفري1907) فأظهر براعة في الجدل السياسي و
القانوني و واجه آراء غلاة الإستعمار بالنقاش و الحجّة، و تقول المصادر الأرشيفية
الفرنسوية أنّ علي باش حانبه أصبح زعيما لـ'حزب الشباب التونسي' بعد إنسحاب
العناصر المعتدلة منه فأعطاه واجهة متشدّدة و أصبح العقل المدبّر لجميع المواقف
المناهضة للحماية .
و قد برزت خصال باش حانبه التنظيمية و القيادية إبتداء من سنة 1910، إذ أصبح
لا يتوانى عن العمل السياسي المباشر فنزل إلى الساحة العامة خطيباً يشدّ أزر طلبة
الزيتونة المضربين (16-28 أفريل)، داعماً مطالبهم بتعصير التعليم الزيتوني من
ناحية الإدارة و المناهج الدراسية، و فتح لهم أعمدة جريدة (التونسي)، و كانت الحرب
التركية الإيطالية في طرابلس مناسبة جديدة لتاكيد مناهضته للإستعمار الأوروبي و
إعلان تضامنه مع الجامعة الإسلامية أملاً منه في دعم عثماني إذا ما رجحت الكفة
لصالحهم، فأصدر بالمناسبة جريدة (الإتحاد الإسلامي) التي أشرف عليها (عبد العزيز
الثعالبي) و ساهمت في تحريرها أقلام تونسية معروفة مثل (محمد الجعايبي) و (الصادق
الزمرلي) .
و تقول التقارير الفرنسوية أنه أنشأ لجنة سريّة لجمع التبرّعات لفائدة
المقاومة في طرابلس بإسم الهلال الأحمر .
و كانت أحداث الزلاج (7-8 نوفمبر 1911) نقطة فاصلة بالنسبة لعلي باش حانبه و
لحركة الشباب التونسية بصفة عامة، حيث أذهلت تلك الهبّة الجماهيرية العفوية و
صدامها العنيف مع سلطة الإستعمار كلّ الطبقة المثقفة، و أيقن أن الأمة التونسية
قابلة للتنظم في كلّ وقت و أنّ روح الثورة الأولى (1881) لم تندثر كما كان يعتقد،
فبدأ من وقتها العمل على الإستقطاب و التنظيم السرّي لمجموعات من عمّال المناء و
طلبة الزيتونة .
و تجلّى طموح باش حانبه القومي من خلال الحركة الإحتجاجية التي إنتظمت بمناسبة
مقاطعة التونسيين للترامواي في شهر فيفري 1912، فقد تزعم اللجنة السرية التي
تكوّنت لتأطير الحركة، و حرّك المظاهرة التي إنتظمت في الأسواق في 1 مارس 1912
بمناسبة زيارة الباي لها عشيّة المولد النبوي، كما أظهر خلال المفاوضات التي جرت
مع الكاتب العام للحكومة و مدير الأمن ثباتاً على الموقف لذلك تم نفيه بأمر صادر
عن الباي في 13 مارس 1912 و جرى تسفيره فجراً من ميناء بنزرت في إتجاه مرسيليا .
و رغم إلغاء أمر الإبعاد بعد ستة أشهر فقد رفض باش جانبه العودة إلى تونس بعد
إقتناعه بعدم جدوى العمل السلمي الإصلاحي في ضلّ الإستعمار خاصة و أنّ غلاة
الإستعمار بتونس كانو يوجهون سياسة الحكومة عبر نواديهم و جورنالاتهم ، مفضلاً
الإستقرار بإسطنبول علّه يستفيد من ظروف الحرب العالمية الأولى ليجد سبيلاً من
خلال علاقاته التي بناها مع بعض القيادات العسكرية (أنور باشا) لدعم ثورة مسلّحة
شاملة في المملكة التونسية، و هناك إتصل بالمهاجرين الجزائريين و التونسيين
المستقرين بإسطنبول و بدأ في تعبأبتهم، بغرض حشدهم في إنزال بحري على السواحل
التونسية عن طريق غواصات ألمانية و تركية .
و قد أتيح لعلي باش حانبه الإنخراط في سلك الإدارة العثمانية حيث تم إنتدابه
بصفة مفتّش للعدلية في إقليم إسطنبول ثم كمستشار دولة و أخيراً كرئيس تفقديّة
بوزارة العدلية، و هذا ما أتاح له تدعيم علاقته بظبّاط الجيش العثماني و أعظاء (تركيا
الفتاة) و (الإتحاد و الترقي) بعد أن كانت مقتصرة على أعمدة الصحف، أملاً منه في
دعم فكرة الإنزال البحري بالغواصات بعد التنسيق مع الجانب الألماني، لذلك إعتبرته
فرنسا في حلة تمرّد و قامت بعقل أملاكه في تونس و بيعها لفائدة الدولة بمقتضى أمر
صادر في 5 جويلية 1917 .
لكن التدهور السريع للدولة العثمانية و إستسلام ألمانيا، حال دون تنفيذ خطة
الإنزال، بالإظافة لمرض مفاجئ طرأ على باش حانبه أقعده بإسطنبول أين توفي ليلة
سقوط المدينة 29 أكتوبر 1918، و قد أمر (أنور باشا) بدفنه سريعاً حتى لا يمثل
العدو بجثته كما يفعل مع مناوئي الإستعمار .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire